مجتمع

حتى لا يحمل أبناءنا أسفارًا

التربية بالقرآن على خطى الرسول صلى الله عليه وسلم.. كيف يسهم تعلم القرآن في إجابة تساؤلات الأطفال عن الله ويجعلها فرصة للتقرب إليه ومحبته؟

future أطفال تتلوا القرآن الكريم

في حديث مع عدد من الفتيات عن الله قالت إحداهن: أنا أتخيل الله على شكل القمر وأظنه أحيانًا هو، وتساءلت: الله خلقنا نحن فمن الذي خلقه هو؟ وتساءلت أخرى: لماذا خلقنا الله؟ ولماذا يخلق بشرًا يكفروا ويعذبوا إذا كان لديه القدرة على جعلهم مؤمنين؟

يتعرض الآباء والمربين لحالة من التوتر والقلق عندما يفاجؤوا بتساؤلات من الأبناء عن الرب والإله، من أين أتى الله؟ ومن الذي خلق الله؟ وما شكله وما هيئته؟ ويتطور الأمر إلى الحد الذي يجعلهم يتخيلون الله عز وجل في هيئة معينة، ويرسمون له صورة ذهنية محددة.

يتزامن مع هذا القلق معاناة الأمهات في بناء الإيمان في نفوس أبنائهم، ويظهر ذلك في توجيه الأبناء للصلاة والعبادات، وما تلاقيه الأمهات من مشقة في تذكيرهم بالصلاة وتتكرر شكوى: متى يؤدي الأبناء عباداتهم برغبة ذاتية وإيمان داخلي؟

نشأة التساؤلات وفقدان البوصلة

تبدأ هذه التساؤلات والأفكار في عمر الحادية عشر باعتبار هذه المرحلة نقطة تحول رئيسية في التطور المعرفي لدى الأطفال، لذلك فإن صدور هذه التساؤلات هي نتيجة منطقية وإشارة لتطور النمو المعرفي للطفل.

ليست طبيعة المرحلة هي السبب الوحيد الذي تنتج عنه هذه الأسئلة، وإنما نتيجة لجهل معرفي عند الأطفال عن خالقهم وفقدان البوصلة الإيمانية.

ينشط المربون في توجيه أبنائهم لحفظ القرآن والسعي الحثيث لختمه حفظًا وتلاوة بإتقان تام، ومع دخول شهر رمضان تتسابق مختلف فئات المجتمع في إقامة مسابقات لحفاظ القرآن الكريم وتكريمهم، وعلى عظم هذا الأمر وتحفيزه للأطفال لارتياد الكتاتيب والحفاظ على حلقات القرآن إلا أن حفظ ألفاظ القرآن دون معرفة معانيه لا يسهم في إجابة أيًّا من هذه التساؤلات، ولا يحدث فيهم أثرًا إيمانيًا عمليًا تجاه عباداتهم.

في نفس السياق، لا يمكن إنكار دور الكتاتيب ومداومة حفظ كتاب الله في إكساب الأطفال لغة رصينة وألفاظ وتراكيب مهمة، ومهارات عالية في الحفظ والذاكرة، لكن يبقى الدور المهم والذي لأجله نزل القرآن والذي حرمه أبناء هذا الجيل وهو الاستهداء بالقرآن.

وقد أشار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، فيذكر عن ابن عمر أنه قال: كان الفاضل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر هذه الأمة لا يحفظ  من القرآن إلا السورة أو نحوها، ورزقوا العمل بالقرآن؛ وإن آخر هذه الأمة يقرؤون القرآن منهم الصبي والأعمى ولا يرزقون العمل به. وقال عبدالله بن مسعود: إنا صعب علينا حفظ ألفاظ القرآن، وسهل علينا العمل به، وإن من بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن، ويصعب عليهم العمل به.

الإيمان أولًا

إذا نظرنا لتعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع الصحابة الكرام نجد أنه لم يكن همه الأول تلقينهم القرآن بألفاظه فحسب، وإنما كما يقول ابن عمر رضي الله عنه: تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانًا.

فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعزز لديهم محبة القرآن والإيمان به، ليكون هو أعز وأجل ما في حياتهم، ويختار في ذلك قرائن مادية تناسب بيئتهم وطبيعة حياتهم وتصور لهم عظم القرآن كما في هذا الحديث..

يَسأَلُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أصحابَه: {أَيُحِبُّ أحَدُكُمْ إذا رَجَعَ إلى أهْلِهِ أنْ يَجِدَ فيه ثَلاثَ خَلِفاتٍ عِظامٍ سِمانٍ؟ قُلْنا: نَعَمْ، قالَ: فَثَلاثُ آياتٍ يَقْرَأُ بهِنَّ أحَدُكُمْ في صَلاتِهِ، خَيْرٌ له مِن ثَلاثِ خَلِفاتٍ عِظامٍ سِمانٍ}.

«أَيُحِبُّ أحدُكم إذا رَجَعَ إلى أَهْلِهِ»، أي: إذا رَجَعَ إلى بَيْتِهِ، حيث يُوجَدُ أهلُهُ وأولادُهُ، أنْ يَجِدَ في مَحلِّهم أو بيْتِهم «ثَلاثَ خَلِفَاتٍ» جَمْعُ خَلِفَةٍ، وهي الحاملُ مِنَ النُّوقِ، وقِيلَ: الخَلِفةُ: الحامِلُ مِنَ النُّوقِ إلى أنْ يَمِضيَ عليها نِصْفُ أَمَدِهَا، وهي مِن أَعَزِّ أموالِ العربِ، «عِظامٍ» في الكَمِّيَّةِ، «سِمَانٍ» في الكيفيَّةِ فإذا ما كانت عَظيمةَ اللَّحمِ، مَليئةً، كَثيرةَ الشَّحمِ، سَمينةً؛ كانت أشدَّ حُبًّا..

فأجابوا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: «نعمْ» بمُقْتضى الطَّبيعةِ، وتَطَلُّعًا إلى الأَجْرِ، فأخبَرَهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أنَّ قِراءةَ ثَلاثةِ آياتٍ في الصَّلاةِ؛ خيْرٌ مِن الثَّلاثِ خَلِفاتٍ؛ فأجْرُ قِراءةِ ثَلاثِ آياتٍ في الصَّلاةِ أفضَلُ وأعظَمُ في الأجرِ مِن امْتلاكِ تلك النُّوقِ

وفي الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ، فَقَالَ: (أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى بُطْحَانَ، أَوْ إِلَى الْعَقِيقِ، فَيَأْتِيَ مِنْهُ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ فِي غَيْرِ إِثْمٍ، وَلَا قَطْعِ رَحِمٍ؟).

فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ نُحِبُّ ذَلِكَ.

قَالَ: (أَفَلَا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَعْلَمُ أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ، وَثَلَاثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ، وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الْإِبِلِ)».

وبطحان: اسم وادٍ بينهم وبينه مسافة وناقة كومة: يعني من أنفث أنواع الإبل وأغلاها وأثمنها وهي أشبه اليوم بأغلى أنواع السيارات في العالم وبالإضافة لذلك طمأنهم أنها لن تكون سرقة ولا غشًا ولا مالًا حرامًا.

بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديثه بأسئلة تثير فضول صحابته رضوان الله عليهم، وتجذب انتباههم بأحب ما يتمنوا امتلاكه من متاع الدنيا وأفضلها وأغلاها؛ ليدلل على عظم تعلم وقراءة القرآن في صورة تحببهم في القرآن وتدفعهم نحو الاستزادة منه كلما أرادوا الاستزادة من الأجر وادخاره للآخرة، لتصبح معاملتهم للقرآن معالمة التاجر الرابح الذي ينافس نفسه فيه فينهل منه بقدر ما يحب أن يجد نفسه.

وكان من فضل الله ورحمته بالصحابة أن أول ما نزل من القرآن في مكة السور التي تغرس حب الله عز وجل وتدلهم عليه وتبني الإيمان والعقيدة الصحيحة في نفوسهم حتى استقر الإيمان في قلوبهم ثم نزلت آيات التشريع بعد ذلك.

ويتضح ذلك فيما ذكر في البخاري عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام، نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيءٍ: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبداً.

أين يبدأ الآباء مع أبنائهم؟

إن أفضل معلم للأبناء هم الآباء والمربون، لذلك فإن علاقة الأبناء بخالقهم عامة وبالقرآن خاصة تبنى على ما أنشئت عليه علاقاتهم مع الوالدين، وذلك لأنه بقدر المحبة والألفة والاحترام الذي يحظى بهم الأبناء من قبل الوالدين تكون استجابتهم الفاعلة لما يتلقونه عن ربهم وعن القرآن كمنهج رباني يروا أثره في علاقة آمنة مطمئنة مع والديهم.

وهذا هو نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صحابته الكرام في سنين دعوته الأولى، فكان خلقه القرآن والذي تجلت فيه معانيه الجميلة وإيمانه الخالص فما كان من الصحابة رضوان الله عليهم إلا أنهم أحبوا القرآن والإيمان تبعًا لمحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجاء ما رغبهم فيه من أجور عظيمة.

فإحداث الأثر في الأبناء من المربين والآباء يتطلب قدوة طيبة تنتهج نهج النبي صلى الله عليه وسلم لتكون وجهة الأطفال الأولى هي الإيمان الراسخ المتدفق من قلوب آبائهم، والمترجم في لحظاتهم اليومية بشكل يجعلهم يروا أثره على حياتهم وطبيعتها.

محو الأمية القرآنية

وإنه مما نتج عن الاهتمام بحفظ القرآن تلقينًا لمعانيه فقط؛ حالة من الأمية القرآنية، وهو مصطلح جديد يعبر عن فقدان كثير من الناس والأطفال لفهم معاني القرآن وتدبره وتطبيقه والعمل به، وهو عكس ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فعن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرئهم العشر فلا يجاوزونها إلى عشر أخرى حتى يتعلموا ما فيها من العمل، فيعلمنا القرآن والعمل جميعًا.

وفي موطأ مالك، أنه بلغه أن عبد الله بن عمر مكث على سورة البقرة ثماني سنين يتعلمها، وروي عن أبي عبدالرحمن السلمي أنه قال: «كنا إذا تعلمنا عشر آياتٍ من القرآن لم نتعلم العشر التي بعدها حتى نعرف حلالها وحرامها وأمرها ونهيها».

لذلك فإن أول ما نحتاج إليه لتنشئة جيل يعرف ربه معرفة تتلاشى أمامها مثل تلك الأسئلة التي ابتدأنا بها حديثنا، والتي هي مثار قلق المربين، ولبناء الإيمان وغرس العقيدة الصحيحة بشكل يدفعهم دفعًا نحو تطبيق عباداتهم وإخلاصهم فيها لله وحده، أن يتعرف هذا الجيل على معاني المفردات القرآنية، وأن ينصبَّ ذلك الجهد المبذول على الحفظ ليتحول إلى التعرف على الله من خلال كلامه الذي أنزله منهاجًا نمضي عليه في طريقنا وفقًا لأوامره ونواهيه.

ثم تتبُّع معرفة المعاني وفهمها معرفة مراد الرب تبارك وتعالى منها، وكيف يمكن تطبيقها والعمل بها لتصبح شخصية الطفل المسلم شخصية قرآنية تعرف من هو خالقها، وتتعرف على نفسها وعلى مقام عبوديتها التي تتطلب الخضوع التام لخالق هذا الكون والاستسلام لقدره، والتوحيد الخالص له، والرجاء الدائم والطمع في خزائن رحمته.

فالنفس متى عرفت من ربها صفاته العلية الجليلة، وآمنت إيمانًا حقيقيًا وآوت إلى ركن ربها الشديد؛ أصبحت نفسًا سوية مطمئنة تفر من ربها إليه وتمضي دون شكوك أو قلق نحو مرضاته.

# القرآن الكريم # شهر رمضان # تربية

يوميات المازني في رمضان
مجالس الأدب في إحدى ليالي رمضان
17 رمضان يوم الاتحاد والجهاد والنصر

مجتمع